بعد أن قرأت المقال الرائع لنانسي حبيب في جريدة التحرير عن (القاطن في دير النحاس)، أعدت مشاهدة فيلم حياة أو موت، الذي يحكي عن الصيدلي الذي أخطأ في تركيب الدواء فأخذ يبحث عن البنت الصغيرة التي اشترته منه حتى يمنع أباها من تناوله وبالتالي ينقذ حياته، وبالمناسبة دائما ما كان هذا الفيلم يمثل كابوسا بالنسبة لي باعتباري صيدلانيا، حيث دائما ما كنت أتخيل نفسي في موضع هذا الصيدلي الواقع في هذه الورطة الجهنمية فيقشعر بدني، وأعتقد أن كل صيدلي يشاهد الفيلم سيكون لديه نفس الشعور.
شاهدت الفيلم المنتج عام 1954 بعيون جديدة، ولأنني مغرم بمتابعة حالة الشوارع المصرية وما صارت إليه، لذا رأيت فيه ملاحظات جديدة عن القاهرة التي كانت.
1. كان الترام يغطي معظم المناطق المأهولة في القاهرة. ركبت البنت الترام من مصر القديمة ليذهب بها إلى شارع القصر العيني ثم إلى ميدان التحرير ثم إلى باب اللوق وعبر وسط البلد إلى العتبة. وهناك لقطة نرى فيها الترام يعبر أمام مجمع التحرير ولقطة أخرى وهو يعبر أمام دار القضاء العالي. ثم في أثناء عودتها ركبت من العتبة بالخطأ تراما يذهب إلى الجيزة! ومن حديث الحكمدار نحصل على لمحة بأن الترام يذهب إلى روض الفرج أيضا! يبدو أنه لم يكن هناك مكان لا يذهب إليه الترام! إذن لقد كانت القاهرة تضاهي معظم المدن الأوروبية في انتشار وسيلة المواصلات الرائعة هذه ولديها عشرات الكيلومترات من خطوط الترام في كل مكان.
كان البارون امبان – مؤسس ضاحية مصر الجديدة – هو من أدخل خطوط الترام إلى القاهرة عام 1896.
السؤال الآن: من الأرعن الذي قرر رفع كل هذه الخطوط من الشوارع؟ ففي الوقت الذي لازالت فيه كل المدن الأوروبية تحتفظ بخطوط الترام التاريخية بل وتضيف إليها، نجد المسئولين في مصر وقد رفعوها كلها من الشوارع. لم يتبق سوى مترو مصر الجديدة التي يقتطعون منه جزءا جديدا سنة بعد سنة، ومنذ أسابيع قليلة ردموا خطوط المترو في شارعيّ الثورة وعبد الحميد بدوي ورصفوا فوقها (بالرغم من أن القضبان الفولاذية هي أقيَم ما في هذه المنظومة ويكلف مدّها مبالغ هائلة، فهم حتى لم يكلفوا أنفسهم عناء فكّ القضبان والاستفادة بها)، كما فعلوا نفس الأمر بخطوط المترو في شارع مصطفى النحاس، وفي خط مترو الميرغني، وقريبا سيرفع تماما ليتحول إلى جراجات للسيارات.
عندما زرت دولة التشيك رأيت عربات ترام قديمة جدا مماثلة لأحد أنواع عربات الترام التي كانت تسير في القاهرة قديما، والتي رفعت من الخدمة منذ زمن بعيد. بالبحث على الإنترنت وجدت أن القاهرة استوردت هذا النوع من عربات الترام من التشيك فعلا، لكن بينما خرجت كل هذه العربات من الخدمة في القاهرة لانعدام الصيانة وفشلها، لازالت هذه العربات تجري في التشيك كالرهوان كأنها جديدة لانج رغم أن الزمن أكل عليها وشرب!
2. في إحدى لقطات الفيلم، ولأن البوليس كان يبحث عن الفتيات الصغيرات اللواتي يحملن زجاجة دواء ويسرن في شارع القصر العيني، يقابل ولد صغير بطلة فيلمنا ويخبرها بأن تسير من طريق آخر حتى لا يجدها البوليس. يأخذ الولد بطلتنا من يدها ويدخل بها في مدخل عمارة في شارع القصر العيني ويعبر بها مدخل العمارة الطويل المزدان بالعمدان الضخمة ثم يخرج بها إلى شارع آخر مواز! هذه العمارة هي العمارة رقم 68 شارع القصر العيني، وهي عمارة ضخمة جدا ولها بالفعل مدخلان، أحدهما على شارع القصر العيني والآخر على شارع حسن مراد الموازي للقصر العيني، والذي سارت فيه الفتاة حتى لا يمسكها البوليس.
منذ بضع سنوات قام ملاك العمارة – في خطوة تنم عن غلاسة متناهية - بسد الباب المطل على شارع القصر العيني بشكل نهائي، وصار الدخول إلى العمارة يتم فقط من الباب الخلفي. ربما كي لا تهرب فتاة أخرى تحمل زجاجة دواء من البوليس!
بهو عمارة 68 شارع القصر العيني، تصوير الكاتب |
3. عودة إلى الترام، حيث نرى مع الكمسري (زمارة) يزمر بها عندما يطمئن أن الزبائن خرجوا ودخلوا فينبه بها السائق لأن يبدأ الحركة! ما أحوجنا الآن إلى مثل هذه الزمارة! ففي القرن الحادي والعشرين تتحرك الأوتوبيسات لدينا والناس متدلون على سلالمها، وحتى مترو الأنفاق يغلق الأبواب على الناس دون أن يكونوا قد انتهوا من الدخول والخروج، ولكم من حوادث تحدث بسبب هذا الأمر، بينما قد يكمن الحل في شيء بسيط كزمارة!
4. يمتليء الفيلم بمناظر التصوير الخارجية، حيث تظهر في الفيلم الكثير من الشوارع خاصة شوارع وسط البلد، ورغم ما يمكن أن نقوله عن جمال الشوارع واتساق معمارها في ذلك الوقت مقارنة بوقتنا الحالي، إلا أنها أيضا لم تكن تخلو من فوضى! حيث نرى الناس لا يسيرون على الأرصفة وإنما في وسط الشوارع مع السيارات (تلك العادة التي يبدو أننا ورثناها عن أجدادنا واستمرت معنا حتى اليوم!) ونرى راكبو العجل وحاملو أقفاص الخبز والعربات التي تجرها الحمير والأحصنة، كل هؤلاء يتحركون في خطوط متقاطعة مع بعضهم البعض ومع السيارات في شكل فوضوي هائل!
5. في الفيلم لم يكن الناس يرتدون الطرابيش، لكن العساكر الذين يحرسون الحكمدارية كانوا يرتدون الطربوش مع ذلك، وهذا يتفق مع أنه تم إلغاء ارتداء الطربوش للمدنيين عام 1952، بينما ظل العسكريون يرتدونه حتى 1958.
6. لاحظت أن كل عسكري يضع على ياقته لافتة معدنية صغيرة بها رقم يدل عليه. وهو إجراء ممتاز يساهم في الضبط والإبلاغ عن أي عسكري يرتكب مخالفة في الشوارع. لعلنا بحاجة إلى إعادة هذه العادة مرة أخرى.
7. في الفيلم لقطة نادرة شاملة لميدان التحرير، يظهر بها جزء من القاعدة الشهيرة التي كان من المفترض أن يوضع عليها تمثال الخديوي اسماعيل قبل ثورة 1952، والتي رفعت من مكانها عام 1996 وتم تحطيمها بإهمال شديد رغم أنها من تصميم المعماري الشهير مصطفى باشا فهمي، ثم عثرت الدكتورة سهير زكي حواس مؤخرا على حطامها ملقى وسط أكوام القمامة في المقطم! الأهم في هذه اللقطة هو مساحة شاسعة فارغة بالقرب من المتحف المصري، هي أرض ثكنات قصر النيل التي هدمت عام 1953، ولم يكن قد بني مكانها أي شيء بعد.
كانت هذه بعض الملاحظات التاريخية والجغرافية السريعة على الفيلم. نرجو أن تكونوا قد استمتعتم معنا، وإلى اللقاء في فيلم قادم!